ثقافات وتقارير 2019427161848852نسمات رمضان، كانت تهب على المدينة المنورة، اعتباراً من النصف الأخير من شهر شعبان، ففي هذا الوقت كان (باب المصري)، (الذي يدخل منه، القادم من طريق مكة، إلى الحرم النبوي الشريف)، يمتلئ بباعة المشبك، والفشار، والحمص، والحلاوة الحمصية، والحلوى الملونة التي يطلق عليها عامة الناس اسم (الحلاوة الطبطاب) ومن هذه الحلوى الأحمر والأزرق والأبيض. تمتد مباسط هذه الحاجيات، أمام (الباب المصري)، من العصر وحتى المساء، قبل الخامس عشر من شعبان وبعده أيام، لتأخذ كل أسرة حاجتها منها، استعداداً لاحتفالات النصف من شعبان، الذي يتزامن، مع ذكرى شعبية، يسميها أهل المدينة (سيدي شاهن) وحتى الآن لا أدري من هو (سيدي شاهن)، ولا لماذا يغني له الرجال والنساء والأطفال معاً، كل عام، في وقت معلوم، وفي دائرة معلومة، حيث يدور الأطفال، اعتباراً من غروب شمس الخامس عشر من شعبان، على المنازل مرددين معاً هذه الأهزوجة:
سيدي شاهن ياشر بيت
خرقة مرقة يا أهل البيت
إما ثواب وإلا جواب
وإلا انكسر هذا الباب
لولا خواجا ما جينا
ولو طاحت كوافينا
حل الكيس وأعطينا
واحد مشخاص يكفينا
والعادة يا ست سعادة
هات العادة
سيدي سعيد
هات العيد
إما مشبك وإلا فشار
وإما عريس من الدهليز
وإلا عروس من الروشان
وكان كل واحد من الأطفال والأولاد، مزود بكيس من القماش يجمع فيه ما يتحصل عليه من المنازل، التي يطرق عليها الباب، من المشبك والفشار والحلوى، وقليلاً ما يحصل هؤلاء الذين يطوفون على المنازل، على نقود، وإذا حصل فلا تتعدى القروش المعدودات، إلا إذا كان هناك بيت فيه عروس، فأهل هذا البيت، يعدون لهذه المناسبة عدتها، فيوزعون على الأطفال والأولاد، كميات وافرة من الحلويات والنقود، فالأهزوجة، تأتي على ذكر تلك العروس، التي تطل علي الطارقين، سعيدة ومستبشرة، بأن وقت زواجها، أو السنة الأولى لها في عش الزوجية، صادفت هذه الذكرى المبهجة!
وهذه المناسبة، لم تكن تخص الأطفال والأولاد فقط، فحالما ينتهي دورهم عند العشاء، يبدأ دور الكبار والنساء، الذين يزورون بعضهم، وكل منهم يحمل لجيرانه هديته، من المشبك والفشار، وعاده تمتد سهرة الأسر مع بعضها في جو من البهجة والمرح، فهذا اليوم من شهر شعبان، له وقعه الجميل على الجميع، وهو امتداد للاستعدادات، التي تسبق دخول شهر رمضان المبارك.
هذه العادة انتهت الآن، لكن الحلويات مازالت تصنع، والمشبك مازال يباع، والفشار المعلب، مازال يقلب على (الصيجان) في المنازل، حتى (باب المصري) والحلقة الدائرية التي تسبقه، ذهبت في التوسعة التي أدخلت جميع أبواب المدينة المعروفة، في محيط الحرم النبوي الشريف.
ولعل أبرز ما تحتوي عليه المائدة الحجازية في رمضان، الشرباء، والشربة المدينية مميزة ومعروفة، فهي ثقيلة وغارقة في اللحم والدهن، ولذلك فهي تستحق الاستعداد لها مبكراً، فقد كانت المهاريس الخشبية الكبيرة، تنتشر في العشر الأواخر من شهر شعبان. في سوق (الحبابة) الذي كان يقع أمام (باب المصري)، وكان كل (مهراس) يقف عليه رجل أو امرأة، من المجاورين في المدينة، لدق الحب، بعد نقعه في الماء، ثم نشره على الأبسطة ليجف، ثم يعبأ في أكياس كبيرة من الخيش، ليباع على المشترين، بالصاع والنصف صاع، وهناك من يشتري بالمد والأردب، (اختفت وحدة الكيل مثلما اختفت (الاقة) وحل محلها وحدة الكيلو غرام)، ممن رزقه الله بسطة في الرزق، ليقوم بتوزيعه قبل رمضان على الأسر الفقيرة. وكما تنتشر هذه (المهاريس) في سوق الحبابة، فإنها تنتشر أيضاً في بعض الأحياء، لدى الأسر الكبيرة، أو لدى سكان الحوش، حيث يقومون مجتمعين بجلب من (يدق) لهم الحنطة، وربما قامت النساء بذلك، فالعديد من الأسر، لا يطمئنون للحنطة، التي تجهز من قبل أصحاب الدكاكين، في سوق الحبابة، لذلك يقومون بشراء ما يحتاجون إليه، ثم ينظفونه من الأوشاب ويغسلونه، وبعد ذلك يقومون بدقه بواسطة (المهاريس)، أما الأسر الصغيرة فإنها تحتفظ برحاة صغيرة لهذه المهمة، وفي العديد من الأحواش، كانت توجد مهاريس ورحايات عامة، يستخدمها جميع سكان الحوش، الذين تربطهم، علاقة الود والمحبة والجيرة.
وعلى هذا الهامش، وفي شهر شعبان أيضاً، تكون الاستعدادات على قدم وساق، ليس من أجل رمضان، ولكن من أجل العيد، فقد كان الرجال والشباب والأولاد، يستعدون لتفصيل سراويل خاصة، تسمى (سروال أبو نسلة)، والنسلة هذه عبارة عن شغل (تريكو)، يكون في مؤخرة رجلي السروال. وهناك نساء، يقمن بهذا العمل، لذلك فإن قطع القماش تتوالى عليهن مبكراً، لتفصيل السراويل (أبو نسلة) التي سوف ترتدى، عند الذهاب لصلاة المشهد (صلاة العيد)، ومن ثم معايدة الأهل والجيران. ونفس الوضع مع الأحذية والثياب، فكلها تؤخذ مقاساتها وتجهز، قبل حلول شهر رمضان، والمتعوس هو الذي يمر عليه شهر شعبان، قبل أن يتفق مع خياط السراويل، والملابس، وخراز الأحذية الشعبية، ومنها الحذاء: الشرقي، والتلي، والمكاوي!
وأبقى مع الاستعدادات، التي تسبق شهر رمضان المبارك، ففي العشر الأواخر من شعبان، ينشط الناس في الخروج من المدينة، إلى البساتين المتناثرة، في شمالها وجنوبها، قباء والعوالي وقربان والجرف وآبار علي وغيرها في ما يعرف بـ(الشعبنة) وهذه العادة المقصود بها توديع أشهر الإفطار، والاستعداد للصيام، وما يعقبه من الأشهر الحرم، حيث يلتفت الناس خلالها للصيام والعيدين والحج، وعادة ما تتم (الشعبنة) من خلال مجموعات، بعضها تضم الأسر التي تربطها صلة قرابة، وبعضها بين الشباب والرجال فقط، وبعضها ترتبها المدارس والأجهزة الحكومية أو الخاصة بطريقة شخصية، حيث يدفع كل فرد أو أسرة، مبلغاً من المال، لتوفير الأكل والمواصلات، وقد تستغرق هذه الإجازة يوماً واحداً أو عدة أيام، تقضى بين المزارع أو في الصحراء، بعيداً عن ضغوط العمل، والالتزامات الأسرية والاجتماعية.
وهناك عادة شبيهة لها يطلق عليها (القيلة) وهذه محصورة باسمها، فهي تبدأ من الصباح الباكر، وحتى الغروب أو المساء، ولكنها لا تمتد لليوم التالي، وغالباً تكون في مزرعة، حيث الأكل والشرب واللعب والسباحة مجاناً أو بأجر رمزي، و(القيلة) تكون في أشهر الصيف، ونهايات الأسبوع. إن أهل المدينة مولعون منذ القدم، بالترويح عن النفس، ولهم في ذلك طرق متعددة، أبرزها وأقلها تكلفة ما ذكرناه!
وحين تنتهي (الشعبنة) التي يحتفل بها عدد من سكان المدينة، تبدأ الاستعدادات الفعلية للشهر الفضيل، فالمحلات تمتلئ بمأكولات ومشروبات، لم يكن أحد ليراها، إلا في شهر رمضان، وهي غالباً ما تأتي من الشام، حيث كانت ترتبط المدينة بخط بري وخط حديدي، (توقف بعد الحرب العالمية الأولى). ومأكولات رمضان المنزلية تتراوح بين الحلو والمالح، منها (السنبوسك، الفول، البف، المقلي، الطرمبة، الجبنية، الكنافة، السقدانة، التطلي، المهلبية، قمر الدين، الماسية، الدبيازة، الفريك، الشربة، القطايف)، وهناك المشروبات (التوت، تمر هندي، سوبيا) فكل هذه الأكلات والمشروبات، تتصدر واجهات المحلات، في باب المصري، وسوق العياشة، وسوق الطباخة، وغيرها من الاسواق. ونادراً ما يقبل الناس في رمضان على الأكلات التقليدية، مثل الأرز باللحم، الذي يقتصر وجوده، على ولائم الإفطار، مع الشربة، والسنبوسك، والمهلبية. الغريب في الأمر أن البيوت في المدينة، كانت تعتمد اعتماداً كبيراً، على شراء أنواع معينة من المأكولات جاهزة من الأسواق، بل هي تجهز أولاً بأول أمام المشتري، مثل (السنبوسك والطرمبة والمقلية والأسماك والفول).
المدفع
لست ممن يحبون البكاء على الأطلال، والماضي في عرف سواد الناس، لون من الأطلال، التي ينبغي المرور عليها، فالجديد أفضل وأجمل، وكل ذلك صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن للماضي عبقاً ورائحة، يلاحظهما من عاشه. وعندي من الأشياء القديمة الكثير، أسترجعها وأقرأ عنها، وأكتب عنها، وعندما أكتب الآن وغروب شمس الخريف الجميل يلملم ردائه، لا يسعني سوى أن أتذكر (المدفع)، ففي مثل هذا الوقت الرمضاني، يكون الناس في المدينة المنورة بانتظار انطلاقه، وهي انطلاقة تدفع الجميع لتناول الإفطار أو للإمساك. وعادة ما تكون انطلاقة (المدفع) متزامنة مع أذان المغرب، لكن جمال (المدفع) في المدينة، وربما في غيرها من مدن وقرى الحجاز، كان أكبر وأوسع، وهو يصل واضحاً وقوياً، ولا تكاد تمضي ثانية على انطلاقه، إلا وتكون الأزقة والشوارع، قد خلت تماماً من الناس، سوى قلة تقتضي أعمالهم البقاء في محلاتهم، وعادة ما يتميز أصحاب المحلات، في الشهر الفضيل بيقظة عالية، قد تجعلهم يتركون إفطارهم، لإجبار أي عابر للطريق، ليشاركهم إفطارهم كله أو شيئاً منه، المهم لا يتركونه سائراً بعد المدفع، دون أن يسعفوه بتمرة أو كأس ماء. وكان مدفع رمضان ينطلق من موقعين، أحدهما في (جبل سلع)، غرب المسجد النبوي، والآخر في (قلعة قباء)، طريق قباء الطالع، والمكانين مرتفعين عن سطح الأرض، بما يعطي مجالاً، لوصول صوت (المدفع) إلى أقصى مداه، ولا أدري ما هو موقف سكان المناطق المجاورة للمدفع، ما هو موقفهم من صوته، ورائحة البارود الحادة، التي تنطلق من فوهته، فقلعة قباء، والتي ما زالت بقاياها ماثلة للعيان، حتى الآن (نرجو أن لا يعمد أحد الى القضاء عليها في مقبل الأيام) هذه القلعة، كانت تشرف على عشرات المزارع ومنازل الفلاحين، لكنها الآن تشرف على غابة من بنايات الأسمنت، وشوارع الأسفلت، بما يتبعها من ضجيج العربات والمكيفات، وهي غير بعيدة عن مسجد قباء، أما منطلق المدفع الثاني، فهو قمة (جبل سلع)، وهو جبل يقع قريباً من المسجد النبوي، وكان أيضاً، يشرف على عشرات المنازل والعشش وأسواق الأغنام، ثم صار يشرف على مستشفى فاروق، الذي تحول اسمه إلى مستشفى الولادة والأطفال، وخلف هذا الجبل تقع منطقة (البرابيخ) التي يعبر منها سيل (بطحان)، قادماً من جنوب المدينة، متجهاً إلى شمالها. الآن ضاع مسار السيل، أو جرى سده من منبعه، وأصبح مساره طريقاً مسفلتاً وعمائر ومحلات وأسواق!
لقد كانت المدافع تقليداً عثمانياً، تحرص عليه الدولة العثمانية، فأوجدته في جميع ولاياتها. ولعل أشهر (المدافع) موجودة الآن في (قلعة صلاح الدين) في قاهرة المعز، وكان المدفع قبل حلول شهر رمضان، يجلب من مستودعه، فينظف ويصان، ويوفر له البارود، ليكون جاهزاً، اعتباراً من إعلان دخول شهر رمضان، وحتى ليلة العيد، حيث تنطلق المدافع، حال ثبوت رؤية هلال العيد، مثلما انطلقت حال ثبوت دخول شهر رمضان!
وللمدفع أهداف عديدة، غير إعلان موعد الإفطار وموعد السحور والعيد، أبرزها عند زيارة ضيف للمدينة، أو حلول مناسبة مهمة، مثل الأعياد وغيرها من المناسبات الكثيرة، التي كان يجري الاحتفال بها، في العهد العثماني!
لكن هذا المدفع بدأ في التواري، فبدلاً من أن نسمعه مباشرة، أصبحنا نسمعه في الإذاعة، ثم على شاشة التلفزيون، حتى استعيض عنه بالأذان. وفي ظني أن المدفع لو أعيد الآن للخدمة، لما تمكن أحد من سماعه، أو الحرص على سماعه، فقد كثرت الحواجز، التي تحول بين انتشار دويه إلى أرجاء المدينة، بفعل العمران، وأصوات السيارات، وغيرها من المركبات.
وأبقى مع (المدفع) فقد كان انطلاقه إيذاناً بدخول شهر شوال، يمثل موجة من الفرح، الفرح بتمام شهر الصوم وصيامه وقيامه، والفرح بلقاء الأهل والأحباب، وتصفية النفوس من أدرانها، والفرح للأطفال والرجال والنساء، بملابس العيد وزيارة الجيران، وفي ليلة العيد كانت تمتلئ الأسواق بالناس، فهناك من يسعى لجلب ملابسه، وملابس عياله، من الخياطين، وشراء (الغتر) والأحذية، وبعد ذلك شراء حلاوة العيد، ومع شراء الحلوى، يحرص الناس، على شراء بعض المأكولات الخفيفة، لأيام العيد، ففي العيد ولمدة ثلاثة أيام، كانت تغلق المحلات والأسواق. الآن اختفى (المدفع)، واختفى الاستعداد للعيد، بالملابس الجديدة، وزيارة الأهل والجيران، فسبحان مغير الأحوال!
وقد قرأت في صحيفة (الوطن/ العدد4683) روايتين عن بداية انطلاق مدفع الإفطار:
1 - بدأ انطلاق المدفع مصادفة في عهد السلطان المملوكي (خوش قدم) عام 865هـ حيث أراد السلطان تجريب مدفع جديد، وقد تصادف إطلاقه مع أذان المغرب، فظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع، لتنبيه الصائمين، إلى حلول موعد الإفطار، فخرجت جموع الأهالي لتهنئة السلطان، وعندما بلغ (خوش قدم) سرور الأهالي، قرر المضي في إطلاق المدفع، في مواعيد الإفطار والسحور والإمساك، طوال أيام شهر الصوم.
2 - والرواية الأخرى، تفيد بأن ظهور (المدفع)، جاء أيضاً عن طريق الصدفة، حيث كان بعض جنود الخديوي إسماعيل (1863م - 1879م) يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة، دوت في سماء القاهرة، مع وقت الإفطار، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليداً جديداً، للإعلان عن موعد الإفطار في رمضان، وقد علمت (الحاجة فاطمة) ابنة الخديوي، فأعجبتها الفكرة، ونصحت والدها بإصدار فرمان، يقضي باستخدام (المدفع) في مواعيد الإفطار والإمساك والأعياد الرسمية. ومن ذلك الوقت انتشر (المدفع) في المدن المصرية والحجاز والشام والعراق، حتى وصل إندونيسيا في العام 1944م، ولا ندري هل للمدافع البروتوكولية، التي تطلق الآن، علاقة بمدفع (خوش قدم) و(الخديوي إسماعيل) أم لا، فالمدفع يطلق الآن، عند قدوم الأعياد، ووصول الضيوف، من الزعماء ورؤساء الدول!
المسحراتي
ميزتان، من مزايا شهر رمضان، اختفت تماماً، منذ سنوات: (المدفع)، و(المسحراتي)، أخفاهما ضجيج المدن، وتداخلها مع القرى، وتفكك المنازل، فبعد أن كان المنزل يضم عدة أسرة، أصبح كل من يتأهل من الأبناء، يستقل بذاته، وطول السهر، ورواج أدوات المتعة السمعية، والمرئية، والمقروءة، التي جعلت الصائم ينافس مسحره، فهو يقظان حتى مطلع الشمس، أما الطامة الكبرى، التي ساهمت، في اختفاء المدفع، فهي أولاً وأخيراً الضجيج، وبين الضجيج، وسهر الناس، التوسع في العمران، فقد كان الفراغ يسمح، بسريان صوت المدفع، وصوت الأذان، وصوت المسحراتي. هذا التغير جعلنا، نحل أمورنا عن طريق (الإمساكية)، والجوال والإذاعة أو التلفزيون! لماذا يصيبنا الحنين لتلك الأيام؟
جيل سيادة (المدفع) و(المسحراتي)، كان جيلاً بسيطاً قنوعاً بما يرى ويعمل ويتطلع إليه، والجيل الذي قبلنا، ربما كان أكثر بساطة، ولك أن تتخيل الأعمال التي يلجا إليها جيلنا، ليسلي نفسه في رمضان، علماً بأن ذلك الجيل لم يعرف مكيفات الهواء المنعشة ولا أجهزة الإرسال المتنوعة ولا موديلات السيارات، ولا الطائرات! كانت المتعة الوحيدة، الذهاب إلى السوق بعد العصر، والعودة من هناك، بقدرة الفول مليئة ونفاذة الرائحة، و(السوبيا) و(التميس)، وربما (السنبوسك) و(الجبنية)، لنتحلق حول السفرة، وكلنا آذان صاغية لصوت (المدفع)، وحالما ننتهي من الأكل والشرب نصلي، ثم نجلس للشاي والقهوة، والمرفه منا يضع إذنه بجانب الراديو، ليسمع البرامج الرمضانية، أقول المرفه، أما غير المرفهين فليس لهم، إلا الخروج من المنزل، للعب تحت ضوء (أتريك) البلدية، حتى موعد النوم، ولم يكن يتجاوز العاشرة مساء!
وفي الهزيع الأخير من الليل، يتناهى لسكان الحارة، (كانت المدينة المنورة تتكون من عدة حارات أو أحواش) صوت (المسحراتي). كنت أعرف مسحر حارتنا. كان يأتي كل يوم من قباء، على حمارة صغيرة ودهماء، وبجانبه سحوره، وكان يقف أمام كل منزل، ليطلق نداءه الصداح (يا نايم وحد الدايم!) كان خفيف الروح. طيب القلب. يمر على المنازل، التي يسحرها يوم العيد، ليطمئن على أدائه، وليهنئ السكان بالعيد، الذي كان سعيداً فعلاً، ففيه توزع الحلوى، وترتدى الملابس الجديدة، وتقام الولائم، لكن هذا العيد، ينتهي عادة بعد صلاة الظهر، حتى قيل بأن، (ليالي العيد تبان من عصاريها!)، فمن يمر في الأسواق والأزقة والحارات عصر يوم العيد، سوف يجدها خالية، من الناس، فقد تعبوا من الجري لجلب الحلوى والملابس، والذهاب إلى الحمامات العمومية، وصلاة العيد، ثم المرور على الأهل، والجيران، وحالما يؤذن الظهر، تكون الطاقة قد استنزفت، لينام الجميع، حتى الغداء، أو المساء المتأخر! من الأحسن حظاً، أنتم بضجيجكم ونقودكم ومخترعاتكم، أم نحن ببساطتنا، وقلة المتع لدينا. الحقيقة أنتم أحسن كثيراً، لولا القلق، وقلة النوم، وضعف الروابط الاجتماعية.